الإسراء والمعراج في السُّنة المطهرة
حفَلَت كتب
السُّنة المطهَّرة والسيرة العطرة بقصة
الإسراء والمعراج، ورُويت عن أكثرَ مِن عشرين صحابيًّا
من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغَت حدَّ
التواتر في مجموعها.
ولكن هذه
الروايات يَختلف بعضُها عن بعض طولاً وقِصَرًا، وذِكرًا
وحذفًا؛ فبعضُ ما جاء في روايةٍ لم يُذكر في غيرها من
الروايات، وما ذاك إلا لأن الرُّواة رضوان الله عليهم لم
يَذكروا إلا ما حَفِظَته قلوبهم ووعَته، فمَن حفظ شيئًا
ذكَره، وما لم يَحفظه ترَكه.
وسنحاول إن
شاء الله أن نَذكر في هذه العجالة ما صحَّ سنَدُه منها -
أوْ كاد - تاركين ما جَرح أئمةُ الحديث بعضَ رواته جَرحًا
يَقدَح في عدالتهم وضبطِهم، أو يُسيء ظنَّ المسلمين بهم.
وسنُحاول ترتيبَ حوادثها في
ستِّ مراحل:
الأولى قبل الإسراء،
والثانية في المسرى،
والثالثة في المسجد الأقصى،
والرابعة في السموات
العُلى، والخامسة
عند سِدرة المنتهى،
والسادسة في مكَّة بعد الإسراء.
حتى تتَّضح
الصورة في أذهان القارئين، ولا تختَلِط عليهم الْمَشاهد
والْمَرائي، وكم كان بوُدِّنا أن نذكُر جميع الروايات،
ولكننا رأينا أنَّ في ذِكْر جميعها تطويلاً وتَكرارًا، ليس
القارئُ في حاجة إليه.
المرحلة الأولى:
في مكة ليلة
الإسراء
كان صلى الله
عليه وسلم نائمًا في بيت السيدة أمِّ هانئ بنت عمِّه أبي
طالب مع عمه حمزةَ سيِّد الشهداء وابنِ عمِّه جعفر
الطيَّار؛ إذ فُرِج سقفُ البيت وهو بين النَّائم واليقظان،
ونزَل منه ثلاثةٌ من الملائكة الأطهار فاحتمَلوه حتى أتَوا
به المسجد الحرام، فشَقَّ جبريلُ عليه السلام صدره الشريف،
وأتى بطَسْتٍ من ذهب، مملوءٍ بماء زمزم، فغسَل به قلبه ثم
أفرَغ في قلبه يَنابيع الحكمة والإيمان؛ استِعدادًا لِما
سيُشاهده في هذه الليلة المباركة مِن الآيات الكونية،
ولِمَا سيُلقَى عليه من أنواع الفيوضات الإلهية.
ثم جيء له
بالبراق - وهو خلقٌ مِن مخلوقات الله العجيبة على صورة
حيوان، أسرَعُ مِن البرق في المسير، يضَع قدَمه عند منتهى
بصَرِه - فرَكِبه صلى الله عليه وسلم.
هذا هو مُجمَل
ما جاء في الروايات عمَّا كان بمكة ليلة
الإسراء، وحتى تكون أخي القارئ على بيِّنة من الأمر؛
نوضِّح لك مسألتين ذكرَت الروايات الصحيحةُ فيهما
اختلافًا:
جاء في بعض
الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمسجد الحرام
ساعةَ مجيء جبريلَ ومَن معه، وذكَرَت الأخرى أنه كان في
بيته.
وذكَرت روايةٌ
ثالثة أنه كان في بيت أم هانئ.
فهل هذا يعد اختلافًا؟
والحق أن ذلك
ليس باختلافٍ ما دام التوفيق ممكنًا؛ إذ مِن الجائز أن
يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بائتًا مع لِدَاته: حمزةَ
وجعفرٍ في بيت أم هانئ، والبيت الذي يَنام فيه الإنسان
يسمَّى بيته؛ لاختصاصه به ونسبته إليه، ولو كان مملوكًا
لغيره. والروايات التي ذكَرت أنه كان في المسجد لم تتعرض
لما كان قبلَ وجوده في المسجد على أن بيتَ أم هانئ كان
مُجاورًا للمسجد.
والمنطقة كلها
حرَم، ويَصحُّ أن يُطلَق عليها اسم المسجد الحرام كما نطَق
بذلك الكتاب العزيز.
الثانية: مسألة شقِّ
صدره صلى الله عليه وسلم؛ روَت كتُب السنة
أن النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ صدره وهو صغير بينما
كان يلعب مع الغِلمان في (مَرابع بَني سَعد)، وعَدَّ
العلماءُ ذلك إرهاصًا وتهيئةً للأذهان بأن هذا المشقوقَ
صَدرُه شخصٌ غير عادي، تكتنفه رعاية الله عز وجل.
ورَوى بعضها
الآخر أن حادثةَ شقِّ صدره صلى الله عليه وسلم كانت ليلة
الإسراء.
واتخذ بعضُ
كتَّاب المسلمين وغيرهم مِن الحاقدين من اختلاف التاريخ
وسيلةً لردِّ الروايتين، أو التأوُّل فيهما بأن ذلك من باب
المجاز؛ فهو تعبيرٌ عن هداية الله عز وجل له، وإلقاء النور
في قلبه.
ونحن لا نَرى
في اختلاف التاريخ وسيلةً للرد؛ إذ يُحمل على تَعدُّد
الحادثة والقصة، وبخاصة أنَّهما رُويَتا في أصحِّ كتابين
بعد كتاب الله عز وجل؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
وأما القول
بالمجاز الذي يدَّعيه بعضُ الكتَّاب فهو قولٌ جدُّ خطير
أيضًا؛ إذ مِن المعلوم أن المجاز لا يُصارُ إليه إلا عند
تعذُّر الحقيقة، وما دامت الحقيقة ممكنة فلا داعيَ للقول
به؛ بل هو عبثٌ؛ لأنه تعطيلٌ للنصوص، وحملٌ لها على غير
ظاهرِها وما يتَبادر إلى الأذهانِ عند سَماعها.
قد يدَّعون أن
الجرح والالتئام في مدَّة وجيزة قرينةٌ تَمنع من حمل
الكلام على ظاهره، والحق: لا؛ فليس هذا ببعيدٍ على قدرة
الله.
كما قالوا: إن أمرَ
الخير والشر لا يَرتبط بأعضاء حسِّية في جسم الإنسان،
وإنَّما مرَدُّ ذلك إلى التربية والاستعداد، ونحن نقول لهم
أيضًا: لا؛ وبخاصة بعدَما أثبت العلم الحديث صِلةَ بعض
الأمراض النفسية بعلل تُصيب بعضَ خلايا جسم الإنسان. وكم
سَمعنا عن جراحات تجري لكثير من المرضى النفسيين فيُشفَون
من أوصابهم بإذن الله!
إن القول
بالمجاز في أمر الخوارق تعطيلٌ لها، وذَهاب بالفائدة التي
جاءَت من أجلها، وهي ما جاء بها الله عز وجل على يدِ رسوله
إلا ليُطاعَ بأمر الله؛ تصديقًا له، وتأييدًا لِمُدَّعاه.
بيدَ أننا نرى
في حادثة شقِّ صدر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ليلة
الإسراء بالذات أنها كانت عمليَّةَ تأهيلٍ وتحويل؛ تأهيلٌ
لأن يَرى ما لا تتحمَّله قُوى البشر، وتحويلٌ من الطبيعة
البشرية إلى طبيعةٍ أخرى مَلائكية؛ بل هي فوق الملائكية،
فقَطَعَ المسافات واختَرَق السبعَ الطِّباق، واجتاز إلى
سِدْرة المنتهى في وقتٍ وجيز، دون أن يُصاب بإرهاقٍ أو
إعنات.
المرحلة الثانية:
في المسرى إلى
بيت المقدس
ركب رسول الله
صلى الله عليه وسلم البُراقَ وجبريلُ الأمين أخذ بزِمامه،
تُطوى بهما الأرض، فلا بُعد ولا صِعاب، ولكن كان ثمة
وقَفات كما جاء في سنن التِّرمذي:
وقفة عند طَيْبة المدينة
المنورة التي طيَّب الله عز وجل ثَراها بمَثوى رسوله صلوات الله وسلامه عليه فيها:
بلَد الأنصار
الذين آوَوا ونصَروا، وأعزَّ الله بهم دينَه، مُهاجَر
الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبِه الأوائل الذين أُوذوا في
ذات الله، وأُخرِجُوا من ديارهم وأموالهم يَبتغون فضلاً من
الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون.
وقفةٌ عندها
وصَلاة؛ حتى تكون أول تكبيرة فيها لله مِن حبيبه وخيرته
مِن خلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا فتحٌ قبل
الفتح، وبُشرى بالتأييد والنصر.
وقفة عند طُور
سَيناء: حيث كلَّم الله عز وجل موسى عليه السلام تَكليمًا؛
تِبيانًا للناس أنَّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس
بِدْعًا من الرسل، وأنه صلى الله عليه وسلم على الدَّرْب
يَسير، وأن تلك البقاع التي شرفَت برسالات الله سيعمُّها
من جديدٍ نورُ الله، ولن يَنطفئ مهما خَبا؛ إذ لا يأس مِن
رَوح الله.
وثالثةٌ عند
بيت لحم: حيث وُلد المسيح عيسى عليه السلام، وحيث أوذي
وأمُّه، وتحَمَّلا ما تحمَّلا ابتغاءَ رضوان الله.
وصلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في هذه الْمَواطن الثلاثة شهادةٌ
بأن الإسلام الحنيف هو الدِّين الحق الذي أرسَل الله به
موسى وعيسى عليهما السلام، وإيحاءٌ لنبيِّنا صلوات الله
وسلامه عليه أنِ اصبِرْ كما صبر هؤلاء.
مَراءٍ رآها الرسول صلى
الله عليه وسلم في مسراه:
تُعتبر رحلة الإسراء
والمعراج فاصلاً زمنيًّا بين مرحلتين اجتازَتْهما الدعوة
إلى الله:
الأولى: مرحلة
العقيدة فقط، ودعوة الناس إلى كلمة: لا إله إلا الله،
والاعتراف الصادق بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولُ
الله، وتلك كانت قبل الإسراء.
أما الأخرى: فهي
مرحلة التشريع: تشريعُ عبادات ومعاملات تَسعَدُ البشرية في
ظلالها وتَنعَم في جوارها؛ إذ مِن الثابت أن الصلاة
فُرِضَت ليلة الإسراء، أما الصوم والزكاة والحج ففُرضوا
بعد الهجرة، وتلك التشريعات أمورٌ نظرية قد لا يتقبَّلها
الإنسان بادئَ ذي بدء، فلا تَنال منه إلا الرفض، وبخاصَّة
أنها تَقطع جزءًا من جهده وماله ووقته، وهذا الجزء وإن كان
يسيرًا ولكنه على كل حالٍ عزيزٌ على النفوس.
ومجمل القول: أنَّ
مرحلةً لها طابَعُها الخاصُّ من التضحية والنظام والحساب
الدقيق - قد بزَغ فجرُها، وأن أوانها قد بدأ، فلا بد إذًا
من تدريب الدَّاعية إليها تدريبًا نظريًّا وعمليًّا عليها،
يرى بعَينيه ثمرةَ الاستجابة يانعةً مأتيَّة، كما يرى
جَزاء العصيان والمخالفة واقعًا ملموسًا ومحسوسًا.
وتلك وسيلةٌ
من وسائل التربية العظيمة التي ما اكتشَفها الإنسان إلا
حديثًا، وأسماها: (وَسائل الإيضاح) في التربية الحديثة.
وإذا ما
عرَضْنا لهذه المَرائي التي رآها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وحاوَلنا تصنيفها حسب برنامج الدعوة الإسلامية؛
نجدها تتصدَّى أولَ ما تتصدى لطبيعة تلك الدعوة، وأنها
دعوةٌ سهلة سمحة يسيرة، لا رهَق فيها ولا إعنات؛ فهي دعوة
الفطرة السليمة، والعقل الرشيد.
أولاً: اللَّبن والخمر:
روى الإمام
أحمدُ ومسلمٌ وغيرهما عن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريلُ عليه السلام
بإناءٍ من خمر، وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل:
أصبتَ الفطرة)).
وإذا ما أردنا
أن نقارن بين هذه المرئيَّة وبين طبيعة الدعوة الإسلامية؛
نجد أن اللبن خالصٌ سائغ لم تتدخَّل فيه يدٌ بالفساد؛ فهو
على الطبيعة والفطرة التي خَلَقه الله عليها؛ موافقًا
لجميع الطبائع البشرية مِن طفولتها إلى شيخوختها ومرضها
وصحتها؛ لسهولة هضمه واكتمال العناصر الغذائية فيه.
يَشْريه أهل الحضَر والوبر في الصيف والشتاء على سواء،
ويتسنَّى لهم في كل مكان دون مشقَّة في طلبه، أو إعداده...
إلى غير ذلك من صفاته الحميدة من بياضٍ ناصع، وطعم سائغ،
يُحس شاربُه بالشِّبَع والرِّي.
وكذلك الدعوة
الإسلامية الجديدة يولد المولود عليها؛ كما جاء في الحديث:
((كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه أو
يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه))، ولا يعجز المسنُّ عن القيام
بشعائرها ولا يَثقل على المريض أداءُ تكاليفها؛ ﴿
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
﴾ [الحج: 78].
أما الخمر
التي عافَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فليسَت من
الفطرة في شيء؛ ذلك لأنها بعدَ أن كانت ثمرةً حُلوة ذاتَ
عصير طيِّب - أفسَدها الإنسان وغيَّر من طبيعتها، وأمسَت
حريفةً نتنة لا يَستطيع تجرُّعَ جَرعةٍ منها إلا مَن
تَمرَّس عليها، وغابت حَواسُّه، وسقمَت مشاعره؛ بل هي سمٌّ
يُحرِّمه مَن استَحلوها على أطفالهم ومَرضاهم وكبار السنِّ
فيهم، ثم إنها فوق ذلك تُعطِّل العقل الذي هو مَناطُ
التكليف وحجَر الزاوية في الدِّين؛ فهو دينٌ يُخاطب العقل
ويَحتكم إليه؛ لذلك كان مِن حقِّنا أن نقول: إن هذه
المرئية - الخمر واللبن - كانت لتوضيح طبيعة الدعوة
الإسلامية، وأنَّ الإسلام دينٌ يُوافق الفطرة.
ثانيًا: داعي اليهود وداعي
النَّصارى:
روى البيهقيُّ
في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا
أسيرُ إذ دَعاني داعٍ عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك،
فلم أُجِبه ولم أَقُم عليه. قال جبريل: فذاك داعي اليهود،
أمَا إنك لو أجبتَه وأوقفت عليه لتهوَّدَت أمتُك))...
قال: فقلت:
((فبينما أنا أسير إذ دعاني داعٍ عن يساري قال: يا محمد،
انظرني أسالك، فلم ألتَفِت إليه ولم أقم عليه. قال جبريل:
ذاك داعي النَّصارى، أمَا إنك لو أجبتَه لتنصَّرَت
أمتُك)).
وإذا كانت
مرئيَّة الخمر واللبن وضَّحَت طبيعة الدعوة الإسلامية؛ فإن
في هذه المرئية الجديدة توضيحًا وبيانًا لما يجب أن يكون
عليه الداعيةُ إلى الله مِن استقامةٍ على الجادة وعدمِ
انحِرافٍ عنها قِيدَ أَنمُلة، كما تبين لنا تلك الجهود
المضنية التي بذَلها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى -
وما زالوا يبذلونها - في الصد عن دين الله، والقرآنُ
الكريم أوضحَ في كثيرٍ من آياته البيِّنات تلك الحملات
الطائشةَ والمحاولاتِ العديدةَ التي بذَلها اليهود
والنصارى؛ حتَّى يردوا المؤمنين عن دينهم ما استطاعوا.
﴿
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].
﴿
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا
أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا ﴾ [البقرة: 135].
ولكن الله عز
وجل حسَم الأمر وأوضح الطريق أمام نبيه صلوات الله وسلامه
عليه والمؤمنين به؛ حين قال: ﴿
فَلِذَلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
* وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
﴾ [الشورى: 15، 16].
ثالثًا: خطباء الفتنة:
رَوى ابن
جَرير في تفسيره والبيهقيُّ والحاكمُ من حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ تُقْرَض ألسنتُهم
وشِفاههم بمقاريضَ مِن حديد؛ كلَّما قُرضت عادت كما كانت،
لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: ((ما هذا يا جبريل؟))،
فقال: ((هؤلاء هم خُطباء الفتنة؛ يقولون ما لا يَفعلون)).
وهذه المرئية
تتعلق بسُلوك الدعاة، وأنهم لا بد أن تتوافق أفعالهم مع
أقوالهم، وأنه إذا انفصلت الكلمة عن السلوك وتباينَت عنه
كان ذلك وحدَه كافيًا للإعراض عن دعوتهم، وعدَم الالتفات
إلى أقوالهم: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
* كَبُرَ مَقْتًا
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
﴾ [الصف: 2، 3].
وخطباء الفتنة
أيضًا هم خُطباء رغبةٍ ورهبة؛ يخشَون الناس، ويطمعون فيما
في أيديهم، ويَقولون ما لا يُرضى دونما نظرٍ إلى شِرعة
الحق وسُنَّة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأمثلة ذلك
كثيرةٌ في واقع المسلمين اليوم؛ مِن تحليلٍ للحرام، وتعطيل
لحدود الله، وتزكيةٍ للفاسقين، ومُجالَسة للظالمين.
وكلا الصِّنفين
علماء سوء وخطباء فتنة، ومن ثَم كان عِقابهم أن تُقرَضَ
ألسنتُهم وشِفاههم بمقاريضَ من حديد، وأن يستمرُّوا في ذلك
العذاب؛ لا يُفتَّر عنهم، وهم فيه مُبلسون.
وهذا أنموذجٌ
فقط لما يَغشاهم من النَّكال، بيد أن في السنة
المطهرة أنَّ مِن جملة
عقابهم أنْ تندَلِق أقتابُ[1]
الواحد منهم في النار، فيَدور حولَها كما يَدور الحمار برَحاه،
((ويَسأله أهل النار: ألستَ كنتَ تأمرنا بالمعروف وتنهانا
عن المنكر؟! فيقول: كنتُ أمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم
عن المنكر وآتيه)).
رابعًا: عَقبة على الطريق:
جاء في حديث
أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى على خَشبة
على الطريق لا يَمرُّ بها ثوبٌ إلا شقَّته، ولا شيءٌ إلا
خَرقَته، قال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: ((هذا مَثل أقوامٍ
مِن أمتك يقعدون على الطريق فيَقطعونه))، ثم تلا: ﴿
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ
صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ... ﴾ [الأعراف:
86].
وإذا كان خُطباء
الفتنة شرًّا على مَسيرة الدعوة الإسلامية الراشدة
بأفعالهم التي لا تتَّفِق مع ما يَقولون، وبفَتاواهم
الزائفةِ التي تُضلُّ الناس، ويَحسَبون أنهم مُهتدون - فإن
أولئك الَّذين جاهَروا الدعوة بالعداء، وصَبُّوا ألوانَ
العذاب والنَّكال على رؤوس الدعاة، واختَرعوا أو استورَدوا
مبادئَ وأضاليلَ قد تَستهوي العامَّة ببريقها، حتى إذا ما
تَساقَطوا فيها تساقُط الفَراش أحرقَتهم بلهَبِها، وأكَلَت
الأخضر واليابس مِن وسائل عيشِهم ومقوِّمات حياتهم، ولقد
عاصَرَت الدعوة الإسلامية الكثيرَ من هذه الأباطيل كالذَّهب
الخالص لا تَزيده الفتنةُ إلا نَقاءً في جوهره، وضياءً
وصفاء في مظهره؛ ﴿ يُرِيدُونَ
أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
﴾ [التوبة: 32].
خامسًا: المجاهدون في سبيل
الله:
روى ابن جرير
وغيرُه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم أتى على قوم يَزرعون في يومٍ ويحصدون في يوم، كلَّما
حصَدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا
جبريل ما هذا؟)) قال: ((هؤلاء المجاهدون في سبيل الله؛ تُضاعَف
لهم الحسَنةُ بسَبعِمائة ضعف))؛ ﴿
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
﴾ [سبأ: 39].
أوضَحَت
المرئية الأولى طبيعةَ الدعوة الإسلامية، وأبانَت الثانية
عن عواصِف هوج تنبعث من اليهود والنصارى، وأظهرت الثالثةُ
الخطَرَ الداهم في الذين لَبِسوا الْمُسوح وتشدَّقوا بجميل
الكلم ومعسول القول، وارتكَبوا المنكر والقبيح، وكشفَت
الرابعة عن الذين حادُّوا الله ورسولَه، وصدُّوا الناس عن
دين الله، فكان لِزامًا أن توضِّح مرئيةٌ من المرائي ما
أعدَّه الله عز وجل مِن جزاء وما ادَّخَره من ثوابٍ لأولئك
الذين جاهَدوا في سبيل الله؛ إعلاءً لكلمته، ونشرًا لدينه؛
جاهَدوا بكلمة صادقة، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
الله.
قد يَضنُّ
الإنسان بكلمته خشيةَ أن يُقتطَع بسببها شيءٌ من رزقه، أو
يَفوت عليه شيءٌ من حظِّ نفسه، وقد يَبخل البعض بأموالهم
خشيةَ النَّفاد، كما يَجبُن آخَرون عن خوض معارك الشرف
والكرامة؛ حِرصًا على دمائهم أن تُراق وعلى أرواحهم أن تُزهق،
ولكن المجاهدين في سبيل الله قد جادوا بشيءٍ من ذلك، أو
بكلِّه؛ ثقة وطَمعًا فيما عند الله، وهو أعظمُ وأبقى.
إن الزَّارع
عندما يَبذر الحبَّ في الأرض - وهي جَماد - قد تُنبِت وقد
لا يَخرج منها نبات، وإذا ما استوى النَّبتُ على سوقه فقد
تُصيبه آفةٌ تُهلكه وتأتي عليه، ومع ذلك يَدفعُه رَجاؤه
المرتقَب إلى أن يَبذر بعضَ قوته وقوتِ عياله في الأرض،
وماذا تعطيه الأرض؟ تُعطيه بدل الحَبِّ أضعافًا مضاعفة.
أمَّا عطاء
الله الذي لا تَضيع عنده الودائع فهو عطاءٌ سابغ، وفضل
عظيم، ومِن ثَم كانت صورةُ المجاهدين في سبيل الله - كما
رأيتَ - جزاءً يوميًّا؛ كلَّما زرَعوا حصَدوا، وكلما حصدوا
نَما الزرعُ ثانية ورَبا، ﴿
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
﴾ [البقرة: 212]؛ ﴿ ثَوَابًا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 195]، ﴿
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198].
سادسًا: رؤية الشياطين:
جاء في رواية
ابن جَرير عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ
ليلة أُسري به بشيءٍ يَدعوه مُتنحِّيًا عن الطريق يقول: هَلمَّ
يا محمد! فلما سأل جبريلَ عنه قال: ((وأما الذي أراد أن تَميل
إليه فذاك عدوُّ الله إبليس؛ أراد أن تَميل إليه)).
وجاء في رواية
ابن ماجَهْ وأحمدَ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم رأى أسفلَ منه - وهو في السماء الدنيا - رَهَجًا[2]
ودُخانًا وأصواتًا، فقال: ((من هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هذه
الشياطين يَحومون على أعيُنِ بني آدم؛ لا يتفكَّرون في خلق
السموات والأرض، ولولا ذلك لرأَوُا العجائب)).
وهذه الرُّؤية
توضح لنا عَقبة من العقبات التي تَعترض أمة الإسلام؛ بل
ذلك الحجاب الكثيف من الشياطين الذين يَصدُّون عن ذِكر
الله عز وجل، وعن التفكير في آياته:
﴿
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ *
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
﴿
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر:
6].
تلك هي
العداوة الأبديَّة بين إبليسَ وبين دعوة الحقِّ والدعاة
إليه؛ فلْينتَبِه الدعاة والمدعوُّون إلى حبائله وشباكه أن
تَلفَّهم وتأخُذَ بنواصيهم.
إن الدعاة يَأتيهم
الشيطان ليَغرَّهم بما قالوا فيتكَبَّرون على الناس، ويُعجَبون
بأنفسهم. والكِبْرُ والعُجْبُ والغرور آفاتٌ حالقة، وأمراض
مدمِّرة، وصدَق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((ثلاثٌ
مُهلِكات؛ شحٌّ مطاع، وهوًى متَّبَع، وإعجابُ كلِّ ذي رأي
برأيه)).
وإذا كانت هذه
وقفةَ عدوِّ الله إبليسَ أمام الدعاة فإنه وجُندَه يتربَّصون
بالمسلمين الدَّوائر، وبخاصَّة إذا ما أقبَلوا على ربهم
فترطَّبَت ألسنتهم بذِكْره، وتكحَّلَت عيونهم بالنظر في
خلقه، واستنارَت قلوبهم بالتفكر في عظيم آياته.
ولو أقبَل
المؤمنون على ربِّهم وجاَهدوا حتى تتخلَّى الشياطينُ عن
طريقهم - لانكشَفَت لهم الحجُب، ورأوا العجائب.
وفي حديث حَنظَلةَ
الأُسيِّديِّ الذي أخرجه مسلمٌ والترمذيُّ حينما شَكا هو
والصِّديقُ أبو بكر رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم تَغَيُّرَ حالهما عند مفارقتهما لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال لهم: ((لو تَدومون على ما تَكونون
عليه وأنتم معي لصافحَتْكم الملائكة في مَجالسكم وفي
طرقاتكم)). في هذا الحديث الشريفِ ما يَشهد لما نَقول.
سابعًا: تمثيل الدنيا
بامرأة عجوز:
روى البيهقيُّ
وغيره من حديث أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى
الله عليه وسلم رأى في مَسراه عجوزًا على جانب الطريق،
فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) فقال: ((أمَّا العجوز التي قد
رأيتَ على جانب الطريق فلم يبقَ مِن عمر الدنيا إلا كما بَقي
من عُمرِ تلك العجوز)).
وفي حديث أبي
هريرة وأبي سعيدٍ أنه رأى امرأةً حاسرةً عن ذِراعيها عليها
مِن كل زينةٍ خَلقها الله، تقول: يا محمَّد انظرني أسألك،
فلم يُجِبها ولم يقم عليها. ويقول جبريل: ((تلك الدنيا، أمَا
إنَّك لو أجبتَها وأقمتَ عليها لاختارَت أمَّتُك الدنيا
على الآخرة)).
وإذا كانت بعض
المرائي قد تعرَّضَت لطبيعة الدعوة وسهولتها، وتعرَّض بعضُها
الآخَر للدُّعاة إلى الله وما يجبُ عليهم أن يتَّصفوا به -
فإن في هذه المرئيَّة تنبيهًا إلى قِصَر المدة التي يَعيشها
الإنسان في ظلِّ تلك الدعوة كما يقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: ((بُعثتُ أنا والساعة كهاتَين))[3]
وأشار بأصبعيه السبَّابة والوسطى. تعرَّضَت لعُنصر الزمن،
والزمنُ إذا كان طويلاً فإنه قد يَحتمل التَّسويف، أما إذا
قَصُر أمَدُه ولم يبقَ منه إلا القليل، فلِماذا المَطْل
والتَّسويف؟
إن عمر الدنيا
إذًا قصير، وإقامة الإنسان فيها أقصرُ بكثير فإذا ما ضحَّى
الإنسانُ بعمره القليلِ في سبيل غايةٍ لا تَفنى فلقَد ضحَّى
بقليل ليَكسَب كثيرًا، ضحَّى بشيء متوهَّم في سبيل نعيمٍ
مُتيقَّن، ضحى بزخرُفٍ برَّاق في سبيل جنات عرضُها السموات
والأرض:
﴿
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
* قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل
عمران: 14، 15].
ثامنًا: صورة حمل الأمانة:
جاء في رواية
البهيقيِّ وابن جَرير عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتى على رجل قد جمَع حُزمة عظيمة لا يَستطيع
حملها، وهو يَزيد عليها فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال:
((هذا الرجل مِن أمتك، يَكون عليه أماناتُ الناس لا يَقدر
على أدائها، وهو يَزيد عليها ويُريد أن يحمل عليها، فلا
يستطيع ذلك)).
يقول ربُّ
العزة جلَّ علاه: ﴿ إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].
ألاَ مَا أظلم
الإنسانَ لنفسِه! وما أجهَلَه بعواقب أمره! يتحمَّل أماناتِ
الناس، وهو على يقينٍ أنه سيَردُّها إليهم كما أخذَها إذا
ما طلبوها، أو أغلَبُ ظنه كذلك، وهو لا يَدري ماذا سيكون
حاله ومصيره بعد، وما خبَّأه له الغد القريب؟
إن الدهر
قُلَّبٌ، والأيام دُوَل، يومٌ لنا ويومٌ علينا، فمن أين يَأتيك
اليقين - أيُّها المسكين، تتحمَّل أماناتِ الناس - أنك في
غَدِك ستكون قادرًا على ردِّها؟! وإن أتاك فمَن الذي سيَحفظها
لك كما استودعتَها؟! إنها مُعرَّضة للتلف والدَّمار، فحَريٌّ
بالعاقل ألا يَحمل من أمانات الناس فوقَ ما يُطيق؛ ولهذا
جاءت صُور أولئك الذين يتَحمَّلون أمانات الناس ويَستزيدون
منها في صورة أبلَهٍ غافل، يَجمع ما لا يستطيع حمله، ثم هو
بعد ذلك يَطلب المزيد!
إن الأمانة
فطرةٌ كريمة في الناس غذَّتْها الشريعة الإسلامية بلبان
القرآن الكريم والسنة
المطهَّرة، ولكنها سرعان ما تَزول وتذهب كما يُخبرنا
الرسول الكريم في قوله: ((إن الأمانة نزلَت في جَذرِ قُلوب
الرجال، ثم نزَل القرآن، فعَلِموا من القرآن، وعَلِموا من
السُّنة))... وكما حدَّث صلوات الله وسلامه عليه من رفعِ
الأمانة فقال: ((يَنام الرجلُ النَّومةَ فتُقبَض الأمانة
مِن قلبه))[4]. ومَن
أدرى المسكينَ أنه في الغد آمِن؟!
تاسعًا: صورة تاركي الصلاة:
جاء في رواية
البيهقيِّ وابن جرير عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتى على قومٍ تُرضَخ رؤوسُهم بالصخرة كلما رُضِخت
عادت كما كانت، ولا يُفتَّر عنهم من ذلك شيء، فقال: ((ما
هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسُهم عن
الصلاة المكتوبة)).
يقول الله
تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
﴾ [النساء: 103].
ويقول لنبيه
صلوات الله وسلامه عليه: ﴿
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا
﴾ [الإسراء: 78].
وهاتان
الآيتان الكريمتان توضِّحان لنا مَدى ارتباط الصلاة بالزمن؛
فليس المطلوبُ من المسلم أن يُصلِّي فحسب، وإنما المطلوب
منه أن يُهرَع إلى الصلاة في أوقات مخصوصةٍ حدَّدها ربُّ
العزة جل علاه؛ لأن في تغيُّرِ الأوقات - من ليلٍ إلى نهار،
ومن صباحٍ إلى مساء، ومن عَشِيٍّ إلى إبْكار - إيذانًا
بتغير حال المسلم من راحةٍ إلى عمل، ومن نوم وغفلة إلى يقَظة
وحسٍّ، فكان لِزامًا على هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن
الصلاة، ويُؤْثرون النوم أو الانهِماك في العمل أو السَّمَر
مع الرِّفاق - أن تُرضَخ رؤوسُهم بالصخر مرَّات ومرات؛ ما
داموا لا ينتَبِهون لنداء الحق، ولا يَستمعون لداعي الله:
حيَّ على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم.
بيدَ أن في
الصلاة ترويحًا للنفس من أعباء الحياة التي تَأخذ بزِمامها،
وتستولي على جميع وِجْهاتها، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ((أرِحْنا بالصَّلاة يا بلال)).
عاشرًا: صورة مانعي الزكاة:
جاء في رواية
البيهقيِّ وابن جَرير عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ على أقبالهم رِقاع وعلى
أدبارهم رِقاع، يَسرَحون كما تسرح الإبلُ والغنم، ويأكلون
الضَّريع والزقُّوم، ورَضْفَ جهنَّم وحجارتَها! قال: ((فما
هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هؤلاء الذي لا يؤدُّون صدَقات
أموالهم، وما ظلَمَهم الله تعالى شيئًا، وما الله بظَلاَّم
للعبيد)).
لا يليق
بالإنسان - وقد كرَّمه الله عز وجل، وفضَّله على كثيرٍ مِن
خَلقِه - أن يَرتبط بشيءٍ مادِّي جعله الله عز وجل وسيلةً
له في عيشه؛ لتتحقَّق له الكرامة، ويكون أهلاً للتفضيل،
وهؤلاء الذين يُقدِّسون أموالهم ويضَعونها في مستَوى
كرامتهم وإنسانيتهم - تُعساءُ أذِلاَّء، ومِن ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((تَعِس عبد الدِّرهم! تعس عبد
الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! تعس وانتكَس،
وإذا شيك فلا انتقَش))[5].
تُعساءُ حرَموا
الفقراء من حقوقهم، فكان جَزاؤهم أن يُحرَموا هم أيضًا من
أموالهم وما كسَبَت أيديهم.
ومن ثَم حُرِم
مانِعو الزكاة في هذه المرئية من ثوبٍ سابغ يَستُر أجسادهم،
وإنما الذي نالوه فقط رِقاعٌ على السَّوءتين، وضَريعٌ وزقُّوم
ورضفُ جهنم وحجارتها؛ يَأكلونها فتُقطِّع أمعاءهم.
هذا ما نالوه
من أموالٍ تكَدَّست ومُلئت بها الخزائن، أما الباقي فلِغَيرهم؛
لِمَن ورثوه يُبدِّدونه في مَلاذِّهم وأهوائهم.
[1]
أمعاء.
[2]
الفتنة والشَّغْب.
[3]
الترمذي ومسند أحمد.
[4]
البخاري - كتاب الرقاب - باب رفع الأمانة.
[5]
البخاري - كتاب الرقاب - باب ما يتقي من فتنة
المال، ومسلم - كتاب الإيمان.
|
الخميس، 20 أكتوبر 2016
- تعليقات بلوجر
- تعليقات الفيس بوك
Item Reviewed: الإسراء والمعراج في السُّنة المطهرة
Rating: 5
Reviewed By: chalhaoui